مرصد الجمهورية:
لم يسلم القضاء العراقي وهو "الحصن الأخير" في مواجهة تصدع الدولة، من محاولات حرف مساره لصالح الأحزاب التي تقبض على السلطة، ورغم كونه يمثل أعلى سلطة في البلاد، لكنه يتعرض مثل باقي السلطات إلى عمليات تشويه وفرض أجندات معنية، حتى وصل الأمر إلى اغتيال القضاة الذين يمثلون سد الدولة المنيع في مواجهة الشبكات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة وغيرها.
ووسط محافظة ميسان، المحافظة الجنوبية المعروفة بتصاعد وتيرة نزاعاتها المسلحة بين عشائرها، والتي تصل حد استخدام الأسلحة الثقيلة في مواجهاتها، تعرض القاضي أحمد خصاف الساعدي إلى عملية اغتيال من قبل مسلحين لم تعثر عليهم السلطات الأمنية حتى الآن
.
وأعاد اغتيال القاضي الساعدي، إلى الأذهان مجدداً محاولات تقويض عمل القضاء في ملاحقة عصابات الجريمة المنظمة وشبكات الفساد والمخدرات، منذ قيام النظام الديمقراطي الجديد في العراق بعد سقوط بغداد بيد القوات الامريكية عام 2003 وحتى اليوم.
وخلال حضوره مجلس عزاء القاضي الساعدي في ميسان، تعهد رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان بملاحقة المجرمين الذين ارتكبوا الجريمة النكراء بحق الساعدي.
ودعا القاضي زيدان القائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي إلى "إعادة النظر في القيادات والأشخاص المكلفين بمهام حفظ الأمن سواء في قيادة العمليات أم في الأجهزة الأمنية بمختلف مسمياتها لإعادة فرض سلطة القانون بما يحقق المصلحة العامة ".
هذا واعلن مجلس القضاء الأعلى عن تخصيص مكافأة كبيرة لمن يدلي بأي معلومات حول جريمة اغتيال القاضي أحمد خصاف الساعدي.
وفي نوفمبر من العام 2003، شهد العراق سلسلة من عمليات اغتيال القضاة، حيث اغتيل قاضي محكمة استئناف الموصل اسماعيل يوسف صادق، والذي شارك في عمل المحكمة المكلفة بالتحقيق في ممارسات المسؤولين في نظام صدام حسين.
وجرت عملية اغتياله كما حدث مع القاضي الساعدي في ميسان، حيث فتح مجهولون النار عليه لحظة خروجه من منزله وسط مدينة الموصل.
وقبل اغتيال قاضي الموصل، قتل أحد القضاة في محافظة كركوك، بنيران استهدفته حين كان برفقة اقاربه، لفارق الحياة في الحال، بينما تعرض من كان معه لجروح متفاوتة، وجاءت عملية الاغتيال بعد ساعات من اغتيال القاضي موحان جبر الشويلي في محافظة النجف، لتتوالى بعدها عمليات اخرى من التهديد والقتل والابتزاز التي مورست بحق العديد من القضاة والمحامين في العراق.
ويرى مايكل نايتس زميل معهد واشنطن، المتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران ودول الخليج، أن "هناك حملات لتخويف المسؤولين القضائيين في العراق، وهو أمر غير مفاجئ في بلد عانى من حالة مستمرة من التمرد والاختراق الإرهابي المكثف لما يقرب من عشرين عاماً".
ويتابع في مقال له "في الماضي، استثمر التحالف بقيادة الولايات المتحدة موارد كبيرة في حماية القضاة والمحاكم والشهود العراقيين لكي يمكن إنهاء الملاحقات القضائية وإصدار الأحكام ضد أعضاء تنظيمي القاعدة الدولة الإسلامية. واليوم، هناك حاجة إلى نفس النوع من الحماية لكي يتمكن القضاة من أداء عملهم عند محاولتهم مقاضاة الميليشيات".
وشكلت الحكومة العراقية لجنة الأمر الديواني 29المعروفة أيضاً باسم لجنة مكافحة الفساد، وهي هيئة التحقيق المسؤولة عن إعداد القضايا وإصدار أوامر توقيف. وتم تشكيل اللجنة في 27 أغسطس 2020، بقيادة اللواء أحمد طه أبو رغيف، وقد أنشأت اللجنة نظاماً وقائياً خاصاً لقضاتها الخاصين وممثلي جهاز المخابرات الوطني العراقي، وجهاز الأمن الوطني، وجهاز مكافحة الإرهاب، وتمكينهم من اتخاذ إجراءاتهم ضد كبار الفاسدين.
ويشير نايتس إلى أن "كبار قضاة مجلس القضاء الأعلى مثل فائق زيدان وعلى الرغم من أنهم يتمتعون بحماية جيدة نسبياً من الهجمات ضدهم، إلا أنهم مع ذلك معرضون للمكائد السياسية ضد مواقفهم وإغراءات سياسية لإصدار أحكام لصالح الاحزاب، كما سيتطلب منع التهديدات والفساد داخل مراتب القضاء العليا جهوداً دبلوماسية حساسة ودعماً للمؤسسات، لكن المساعي الناجحة على هذه الجبهة ستعود بثمار أعلى من حيث إرساء سيادة القانون".
ويدعو نايتس الاتحاد الأوروبي و المنظمات المتعددة الأطراف الأخرى أن تأخذ إشارتها من واشنطن وأن تدعم جهوداً مكثفة أكثر من السابق لحماية الإجراءات القضائية في العراق، لا سيما بالطرق التي تجعل كبار القضاة في البلاد يشعرون بأنهم محور الاهتمام الدولي.
100 عام من التحولات
ويشير الدكتور علي فاضل، إلى أن ما يتعرض له القضاة في العراق أمر خطير للغاية، حيث يهدد بنية الدولة واساسها، فمسؤولية السلطة القضائية هي المحافظة على تطبيق الدستور و القانون والحيلولة دون انتهاكه بواسطة اي طرف في الدولة، فالسلطة التشريعية حتى ان كانت منتخبة من الشعب وتستند الى اسس ديمقراطي قد تشرع قانون يخالف الدستور الامر الذي يتطلب وجود قضاء دستوري يمنع حدوث ذلك.
وبالعودة إلى تاريخ القضاء العراقي، فإن المؤسسة القضائية مثل غيرها من مؤسسات الاخرى كانت انعكاس للواقع العراق بكل جوانبه فمنذ تأسيس المؤسسة القضائية في بدايات القرن العشرين في العام1918 علي يد البريطانيين الى يومنا هذا ، نجدها تتأثر بواقع السياسي العراق فمن قضاء يعيش مرحلة التأسيس والبناء خلال العهد الملكي حيث صدر قانون ينظم شؤونه هو القانون رقم (31) لسنة 1929 (قانون الحكام والقضاة) حيث عالج هذا القانون تعيين القضاة وترفيعهم ونقلهم فكان بحق أول مكسب للقضاء عزز مكانته واستقلاله.
ثم توالت القوانين التي تنظم شؤون القضاة جراء الكفاح المستميت من القضاة لتثبيت مكانة القضاء واستقلاله ومنها القانـون رقم (39) لسنة 1929 والقانون رقم (68) لسنة 1943 والقانون رقم (27) لسنة 1945 وبموجبه بدأت خطوة متواضعة على طريق استقلال القضاء حيث أخذت بعض شؤون القضاة تدار بواسطة لجنة من القضاة ومن موظفي وزارة العدل, ووضع في القانون بعض الضمانات لقاضي ومنها عدم جواز توقيفه إلا بعد الحصول على أذن من وزير العدل.
وبعده صدر القانون رقم (58) لسنة 1956 ليعزز بشكل أوسع من استقلال القضاء ورفع مكانة القضاة الاجتماعية حيث أصبح رئيس محكمة التمييز بدرجة وزير ورفعت رواتب القضاة بشكل ملموس ،اما في العهد الجمهوري وفي عام 1963 صدر القانون رقم (26) لسنة 1963 قانون السلطة القضائية ولأول مرة يعترف بموجبه بكون القضاء سلطة تقوم إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية وتدار هذه السلطة بواسطة مجلس قضاء يرأسه رئيس محكمة التمييز وهذه المحكمة هي أعلى هيئة قضائية في العراق.
لكن هذا الامر لم يستمر طويلاً حيث صدر قانون وزارة العدل رقم (101) لسنة 1977 وبموجبه الغي (مجلس القضاء) ليحل محله مجلس العدل، الذي يرأسه وزير العدل، وبذلك فقد القضاء استقلاليته فلم يمارس دوره إذ أصبحت السلطة التنفيذية ممثلة بوزير العدل مهيمنة عليه وحسب نظرياتها السياسية ما شكل انعطافة خطيرة وحادة في تاريخ القضاء العراقي وقد استمر الحال حتى تغيير النظام السياسي في العام 2003 ، حيث تم تأسيس مجلس القضاء الاعلى والمحكمة الاتحادية ، لنكون امام مرحلة تاريخية جديدة للسلطة لقضائية تكون فيها السلطة القضائية مستقله نسبياً عن السلطة التنفيذية ولم يقتصر الامر عند ذلك حيث تعززت استقلالية المؤسسة القضائية عن السلطة التنفيذية اكثر عندما تم نقل ادارة معهد القضاء من وزارة العدل الى مجلس القضاء الاعلى وفقا للقانون رقم (70) لسنة 2017 ، فضلاً عن ذلك تم فصل القضاء الاداري هو الاخر عن السلطة التنفيذية وذلك من خلال تأسيس مجلس الدولة وفقا للقانون رقم (71) لسنة 2017 ليكون بديلاً عن مجلس شورى الدولة الذي كان تابع لوزارة العدل.
وتعيش السلطة القضائية ذات التحديات والمعوقات العديدة لمرحلة بناء الدولة بعد العام 2003 ، وما اسهمت بها هذه السلطة في بناء دولة تتسم بالاستقرار وتحترم حقوق الانسان وتطبق القانون ، لذا وبحسب أكاديميين فلا يمكنا القول بانه كان ضعيفاً او معدوم وانما نقول كان مؤثراً لكن لم يكن بالمستوى المطلوب منها وبالأخص كونها صمام الامان المسؤول على تطبيق الدستور و حماية القانون في العراق.
من الكاتم بدأت
ويرى الكاتب والإعلامي العراقي سعدون محسن ضمد، أن إعلان مجلس القضاء عن مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عن منفذي جريمة اغتيال القاضي أحمد فيصل، وهذا اقل ما يُنتظر منه لحفظ هيبته وحماية قضاته.. إذ لا يمكن القبول بتعرض القضاء لإرهاب الجريمة وابتزازها وتهديدها.
ويضيف وإذا كان هناك تراخ أو غض نظر عن عمليات اغتيال الناشطين والمتظاهرين التي حدثت سابقاً فبالتأكيد هو الذي أوصلنا الى حالة اغتيال المسؤول ثم التطاول على المؤسسة وابتلاع الدولة.
ويتابع على القضاء وكل قوى الدولة الوقوف بحزم ازاء الجريمة السياسية وإلا فسيكون لها ولرؤوسها صولات أقوى بحق القضاء وبحق جميع مؤسسات الدولة.
وبالنسبة للسياسيين الذي يستعملونهم المجرمين كأدوات فعليهم أن يعلموا بان اضعاف القانون سيرتد عليهم، وسلاح الاغتيال لا يسلم منه أحد، لأنه يمثل ابشع حالات الانفلات وهو يتأسس على اضعاف القضاء، ومع ضعف القضاء وانتشار الانفلات فلن يكون المواطن المستضعف هو الهدف الوحيد. وقد اثبتت الأيام بأن الاغتيالات التي بدأت بالكواتم، واستهدفت المواطن، تحولت إلى الطائرات المسيرة وباتت تهدد كبار المسؤولين، فهل من متّعض؟