على نحو مفاجئ، طرح "الإطار التنسيقي" الشيعي فكرة تسليم رئاسة الوزراء، المنصب التنفيذي الأول في العراق، إلى شخصية مستقلة، وذلك عبر مبادرة تضم 9 مقترحات، و9 تعهدات، وهو ما يعبّر عن التراجع المتلاحق في مَسك إيران عناصر معادلة السلطة في العراق، لكنه يحيل أيضاً إلى صلب المواجهة بين فكرتي حلفاء إيران و"التحالف الثلاثي".
يضم الإطار التنسيقي الشيعي الأحزاب والفصائل المسلحة الموالية لإيران، والتي تخوض منذ 6 أشهر مواجهة لكبح مشروع التحالف الثلاثي "إنقاذ الوطن" الذي يقوده التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، والحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، وحزب "تقدّم" الذي يرأسه محمد الحلبوسي المؤتلف مع الحزب السنّي الآخر "عزم" برئاسة خميس الخنجر.
محطّات التّراجع
بعد التظاهرات ضد حكومة حيدر العبادي عام 2016، ثم خلال تشكيل حكومة عادل عبد المهدي (2018)، سخِرت القوى التي تشكل حالياً "الإطار التنسيقي" من مطالبة المتظاهرين بتسليم بعض الوزارات الخدمية إلى شخصيات مستقلة "تكنوقراط"، والتوقف عن التأثير على الوزراء ونهب الموازنات. وكانت القوى النافذة، تتحدث عن "استحقاقاتها السياسية"، وعن أن تسليم مناصب المال والنفوذ إلى مستقلين يُعتبر مطلباً خيالياً.
واستغرق موالو إيران وقتاً أكبر من المُعتاد، كي يتوصلوا إلى قناعة بأن تغييراً كبيراً حصل بالفعل داخل المجتمع العراقي بعد احتجاجات تشرين عام 2019. وتتويجاً لهذا الانتباه المتأخر، تقوم الأحزاب التي رفضت التنازل عن بضع وزارات لمصلحة المستقلين عام 2016، بعرض رئاسة الحكومة برمّتها على مستقل عام 2022.
محور الخلاف "الحقيقي" بين الإطار والثّلاثي
إنها بالتأكيد ليست مواجهة بين الخير والشر، ولا النزاهة والفساد، ولا حتى الاستقلال والتبعية، لكنها على نحو الدقة صراع في العمق بين فكرتين خطيرتين.
يقول حلفاء إيران إن اسم رئيس الحكومة العراقية، يجب أن يولد حصراً من داخل إجماع الكتل الشيعية، رغم أن مصطلح "الكتل الشيعية" عائم، ولا يمكن تحديده بوضوح، فثمّة أكثر من 30 نائباً يعتنقون المذهب الشيعي، لكنهم ترشحوا بصفة مستقلين، متمردين على الكتل الشيعية، فضلاً عن أكثر من 73 نائباً "شيعياً" في الكتلة الصدرية، يشكلون مع حلفائهم الشيعة، أكثر من 100 نائب، من أصل 329، لكنّ قوى "الإطار" تقول إن هذا التجمع لا يزال غير مؤهل "شيعياً" لاتخاذ قرار ترشيح رئيس الحكومة.
بعبارة أخرى، يقول "الإطار"، إن القرار الشيعي "الحقيقي" هو ذلك الذي يصدر عن حلفاء إيران تحديداً، أما الشيعة الآخرون، فـ"ليسوا شيعة بما يكفي"، وأن "الشيعي الذي لا يتماهى كلياً مع طهران، ربما يكون شيعياً إماراتياً سعودياً، أو من أتباع السفارة الأميركية.
وتماشياً مع فكرة "الحق الشيعي"، ترسّخ مبادرة "الإطار"، بقية "حقوق المكوّنات" حين تتحدث عن أن منصب رئيس الجمهورية لا بد من أن يخضع لتوافق الأحزاب الكردية، وأن منصب رئيس البرلمان لا بد من أن يولد من التوافق السني.
قد يكون التنافس على المكاسب، واحداً من أوجه الصراع بين "الإطار" و"التحالف الثلاثي"، لكن ما يجعل هذا الصراع حائزاً الاهتمام الشعبي، هو أنه يأتي بعد نضال طويل ضد تحويل الرئاسات الثلاث إلى إقطاعيات طائفية محسومة سلفاً.
يريد حلفاء إيران أن يُدخلوا جميع العراقيين الشيعة بمختلف اتجاهاتهم السياسية، في تحالف إجباري باسم "المكوّن الأكبر".
وتصادر طهران حق العراقيين الشيعة بالاختلاف والتنوّع السياسي، والانفتاح على شركاء مشابهين من مكوّنات عراقية أخرى، ويريد الفصيل المسلح الإيراني إجبار مكوّن يفوق عشرين مليون إنسان.
يقول داعمو "التحالف الثلاثي"، إن قناعة العراقيين بالمشاركة في الانتخابات تُحتضر، مع وصول نسبة الإقبال في الاقتراع الأخير إلى حدود 20 في المئة فقط، وأن السبب الرئيس للعزوف والمقاطعة، هو الحسم المسبق للمناصب الرئيسية، وتقسيمها سلفاً بين 3 مكونات، وانعدام إمكان إحداث أي خرق عبر الاقتراع، لذا تبدو تجربة "الثلاثي" في بناء ائتلاف حكومي عابر للطائفية، واحدةً من أواخر محاولات إنقاذ إيمان العراقيين بجدوى العملية السياسية والانتخابات.
دبابات وكواتم ومُسيّرات أمام فكرة
يقول قيادي في "الإطار"، إنه لا بد من إشراكه في الحكومة، فلدى الفصائل دبابات ورشاشات وطائرات مسيرة، ولا يمكن دفع الإطار إلى المعارضة، وكثيراً ما تباهت الفصائل بمستوى تجهيزها الإيراني، وتمويلها، لكن تلك الترسانة تبدو بلا فائدة أمام فكرة تهشيم البيوتات الطائفية، وإنتاج معادلة حكم جديدة.
إن ما يقوله حلفاء إيران في مبادرتهم الأخيرة، ينتمي إلى أكثر صيغ الحكم تخلفاً، فالانتخابات وفقاً للمبادرة، ستكون مجرد استفتاءات داخل المكوّنات، على إعادة توزيع الأحجام بين قوى كل مكوّن، ومن جهة أخرى، تمثّل تمهيداً لتفتيت سياسي للبلاد، يتزامن مع محاولات تفتيت اجتماعي تقوده المنصات الإيرانية في العراق، وصولاً إلى هدف إنهاء فكرة العراق، وتحليله إلى "عناصره الأولية"، بين مجموعة قوى مجاورة، على طريقة "المسألة الشرقية".
يقول زعماء فصائل مسلحة، إنهم مستعدون للتضحية بحصصهم الوزارية، ويقدمون إغراءات للصدر، بمنحه جميع وزارات الشيعة، شرط أن يتراجع عن "التحالف الثلاثي"، ويعود إلى "بيت الطاعة الشيعي" في تسمية مرشح رئاسة الوزراء، وليس إلى شركائه في التحالف العابر للطائفية.
لكن الأهم هو تهافت المعسكر الإيراني من نقطة التمسك بوزير هنا أو مدير هناك، وصولاً إلى الاستعداد للتضحية بكل شيء من أجل إجهاض فكرة التحالف العابر للمكوّنات، رغم كل الاعتلالات التي ترافق تحالف "إنقاذ الوطن".
ومنذ إعلان الإطار مبادرته، تشرئب أعناق بعض النواب المقربين من إيران، الذين ترشحوا منفردين، خارج قوائم الأحزاب، لكن الرأي العام العراقي ينشغل منذ صباح الأربعاء، بالتنقيب وكشف الصلات بين "المستقلين المزعومين" والفصائل، في رد فعل استباقي على أي محاولة تمرير "طروادية".