بعد نحو ثلاث ساعات من البحث، وقبل أن نشعر باليأس من إمكانية العثور على معمل لتنظيف "مصارين" المواشي أو الممبار، يصف لنا صاحب محل قصابة في العاصمة العراقية بغداد، المكان بالضبط.
في الطريق، وتحديداً المنطقة الصناعية "بوب الشام" شمال، كان البعض يتهّرب من الإجابة عن تساؤلاتنا بشأن المعمل.
وجدنا بوابة المعمل مغلقة بقفل كبير، وكدنا أن نعود أدراجنا، حتى أخبرنا شاب شاهدنا، وكان يستعد لقيادة دراجته النارية بأنه ليس مغلقاً، وردد قائلاً "اطرقوا البوابة بقوة، ستُفتح لكم، العمال بداخله".
وهذا ما حدث، إذ طرقنا البوابة التي تعلوها كاميرات المراقبة، فاستجاب لنا أحد الموجودين في المعمل، ورحب بنا، أنا وزملائي من فريق الصحافيين.
الدخول من البوابة يعني الوقوف في باحة تخلو من كل شيء إلاً من الذباب والزنابير التي كانت أحجامها أكبر من المعتاد، يلحقها ممر، يصلنا بمكان تواجد العمّال، الذين يرتدون ثيابا مبللة وصدريات ملطخة ببقع بعضها بلون رمادي بينما تغطي أقدامهم أحذية عالية (جزم).
"من الصعب أن أشرح كيف يمكن أن يكون الوضع هنا على ما يرام"، يقول قادر (24عاماً)، فالحاجة والعوز دفعت الشاب، وهو خريج كلية القانون إلى العمل في هذه المهنة الشاقة.
كانت الرائحة الكريهة النفاذة التي يطلقها غاز الميثان من فضلات المواشي الموجودة في "المصارين" أو الممبار تزداد مع كلّ خطوة تقترب فيها من قاعة تنفيذ العمل، حتى تبدأ بالإحساس وكأن شيئاً حارقاً يدخل رئتيك بقوة ويضغط على أنفاسك.. الأمر الذي يدفع لارتداء كمامة الوجه لمواصلة الحديث.
يضيف قادر أن "أصحاب الشهادات من خريجي الجامعات والمعاهد أو الإعدادية وحتى المتوسطة لن يتمكنوا من العمل، إذا لم يقبلوا بأعمال مشابهة لهذا".
ويرى قادر أن "الوظائف الحكومية تقتصر على عناصر الأحزاب ومواليهم، أما الآخرون فلا يمكن لهم أن يعيشوا حياتهم بشكل طبيعي في بلد لا يوجد فيه غير الفساد والخراب".
يتفق معه عامل آخر، يُدعى عباس (27 عاماً)، يقول "لقد مزقت شهادة تخرجي من مرحلة الإعدادية".
يرتدي عباس نظارات سميكة، موضحاً "لقد تسبب لي العمل في هذه الظروف الصعبة، حيث الروائح والرطوبة المرتفة، بضعف البصر".
كما أصيب بعدد من الأمراض الجلدية والصدرية، زاعماً أن العمل يقف وراءها.
أما رعد الذي كانت مهمته تنحسر في غسل الممبار طيلة الوقت، يقول: "لقد أصبت بالأكزيما الجلدية حتى بات لون جلدي غريباً".
"هذه المعاناة هي الحل لتوفير لقمة العيش في بلد لا توفر حكومته فرص عمل مناسبة للشباب"، يقول رعد (24 عاماً).
وفي هذا المكان، كما غيره، لا ينحسر الأمر في العمل على سن معين، فهناك ستعثر أيضاً على عمال لم تتجاوز أعمارهم 18 عاماً، ورغم كل التحديات التي تواجههم، يشعرون بأن حالهم أفضل من غيرهم.
بينما كنا نتحدث إلى العمّال، حضر مدير المعمل، الذي اعترض على فكرة التصوير أو الحديث مع العاملين بخصوص تفاصيل العمل وآثاره على حالتهم الصحية.
تقول الناشطة الحقوقية نادية عبد: "نحن نعيش في بيئة غير صالحة أو مستقرة من الناحية الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والصحية، لذا تجد الكثير من الأفراد يبتعدون عن الظهور بوضوح حتى وإن كان شيء يعمل وفق القوانين والضوابط".
وترى أن حالة الشباب الذين يعملون في مثل المهن التي قد تشكل خطراً على صحتهم، تؤشر على "تخاذل الحكومة ومؤسساتها في مهمة توفير فرص عمل للشباب الخريجين تتناسب مع اختصاصاتهم الدراسية، وأيضاً على ظهور الخلل في سياسات الحكومة ومخططاتها".
وتوضح عبد "المشكلة الأساس ليست في عمل الشباب في مهن شاقة وصعبة بقدر إهمال الجهات الحكومية لهذا الأمر، من حيث توفير السبل التي تخفف من سطوة الأعمال الشاقة مثل الضمانات الصحية والتعويضية والاجتماعية وغير ذلك من خدمات".
وتشير إلى أن الكثير من دول العالم لديها العديد من المهن الشاقة والصعبة، ولكن حكوماتهم تهتم بتوفير الخدمات اللازمة للعاملين فيها، بما يحافظ على أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والصحية بشكل طبيعي.