في 2015، منحت عشيرة عراقية في البصرة 51 امرأة من نسائها لعشيرة أخرى مقابل تسوية الخلافات بين الطرفين.
لاقت هذه الخطوة انتقادات واسعة محلية وعالمية بعدما، ونظر إليها أنها تمثّل جريمة في حق هؤلاء النسوة وانتهاكًا واضحًا لإنسانيتهن وحقهن في اختيار شريك حياتهن.
هذه العادة التصالحية ليست وليدة اللحظة، وإنما يعرفها العراق منذ قديم الأزل، وتُعرف بِاسم "زواج الفصلية"، وتظهر في ربوعه حتى اليوم خاصةً في المناطق الجنوبية.
ما هو زواج الفصلية؟
منذ قديم الأزل، استقرّ القضاء العشائري العراقي على عددٍ من العقوبات العُرفية بالغة القسوة التي تُحسم بها المنازعات بين الأطراف المتصارعة بعيدًا عن طاولة القضاء، مثل ترحيل القبيلة المُعتدية من قريتها إلى أخرى، أو تسليم عددٍ من نسائها للقبيلة المُعتدى عليها فيما يُعرف بـ"زواج الفصلية".
نظريًّا، فإن القضاء العشائري يعتقد أن تزويج فتاة من قبيلة على رجلٍ من قبيلة أخرى يُساهم في فضّ الخلافات بينهما، فهو يصنع رابطًا راسخًا من المصاهرة وصِلة القُربى تحول دون تجدّد الخلافات بين القبيلتين المتصارعتين.
ولكن في الواقع العملي، فإن هذه الخطوة لا تعدو كونها تسليم النساء كـ"دية" بدلاً من دفع الأموال، وهو ما لا يضمن للمرأة سلامتها في جوار القبيلة التي كان أهلها يتصارعون مع أفرادها منذ زمنٍ قليل، وهو ما يجعلها عُرضة للتنكيل المعنوي والبدني من قِبَل الراغبين في الثأر.
وبالطبع، فإن موافقة المرأة أو عدمها على القيام بخطوة كهذه لا وجود له طوال العملية، فما يحكم به القضاء العشائري يسري على الجميع، ما يحرم المرأة من حقها في اتخاذ اي قرار يهم حياتها.
المثير في الأمر، أن هذه الظاهرة لم تتوقّف عن عند قضايا الدماء فقط، والصراعات العشائرية، بل امتدّت في بعض الأحيان إلى الخلافات المالية أيضًا، كأن يتنازل أب عن ابنته -أو يجبرها على الزواج- من شخصٍ وفاءً لديونه.
أيضًا تُعامِل العقلية العشائرية المرأة المُطلقة بأنها "نصف امرأة بكر"، فإذا اتُّفق على تقديم 4 نساء "فصلية" للتصالح، عندها سيتعين على العشيرة تقديم 8 نساء إن كنّ مطلّقات أو الاكتفاء بـ4 إذا فتيات.
انتشار هذا الأمر دفع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إلى إصدار بيان تحذيري من هذه العادة، يدعو الحكومة العراقية للتدخّل فورًا وإنهائها بعدما أدّت في أحيانٍ كثيرة إلى تزويج قاصرات دون السنِّ القانونية حقنًا للدماء بأي ثمن.
احتملي كل شيء فأنتِ "فصلية"
حكت كريمة الطائي الناشطة الحقوقية العراقية لوكالة "فرانس برس"، أنه منذ 20 عامًا تصارعت عشيرتها مع أخرى، ما أدّى إلى مقتل شابٍ من الأخيرة.
وتضيف أنه بعد مفاوضات مضنية، توصّل الطرفان إلى اتّفاق يقضي بتقديم 5 فتيات عذارى كـ"فصلية"، وبناء على ذلك انتقى شيخ العشيرة 5 فتيات -منهن كريمة- ومنحهن لعشيرة المقتول.
كان نصيب كريمة أن تتزوّج من شقيق الشاب الذي قُتل على يدي شباب عشيرتها، والذي كان يعاملها بقسوة وكلما اشتكت لأبيها كان يكتفي بالردّ "احتملي، فأنتِ فصلية".
أنجبت كريمة الطائي من هذه الزيجة 4 أبناء لم يُعاملوا باحترامٍ في عشيرتهم ولا حتى في عشيرة أمهم الذين كانوا ينعتونهم بلقب "أبناء الفصلية" كأنه عار سيظلُّ يلاحقهم -هُم وأمهم- إلى الأبد على ذنبٍ لم يقترفوه.
عبد الكريم قاسم جرّم تلك العادة
في خمسينات القرن الماضي، أصدرت الحكومة العراقية قانونًا يجرّم زواج الفصلية، فالمادة التاسعة من قانون الأحوال الشخصية العراقي نصّت على السجن 3 سنوات لكل مَن يُكره امرأة على الزواج إذا كان من أقاربها، و10 سنوات إن لم يكن قريبًا لها ورغم ذلك أكرهها على الزواج بآخر.
صدر هذا القانون في عهد عبد الكريم قاسم أول رئيس للجمهورية العراقية، الذي كان يسعى لخلق واقع اجتماعي جديد في دولته التي أسّسها على أطلال المملكة الهاشمية بعدما أنهى حُكمها للعراق بانقلابه على الملك فيصل الثاني عام 1958.
أصدر مجلس القضاء الأعلى العراقي اليوم، بيانا مقتضباً يعتبر فيه "جرائم التهديد عبر ما يعرف ب (الدگات العشائرية)، صورة من صور التهديد الإرهابي وفق احكام المادة 2 من قانون مكافحة الاٍرهاب".
الصرامة في تطبيق هذه المادة أدّت إلى تراجع استخدامها إلى مستويات كبيرة، لكن عقب سقوط نظام صدام حسين وضعف قُدرة الدولة على فرض إرادتها في كافة أنحاء العراق عاد الناس إلى القضاء العشائري مُجددًا لحل منازعاتهم.
وبعودة القضاء العشائري بقوة عاد زواج الفصلية من جديد، رغم التجريم الرسمي له.
ورغم كافة الجهود الحكومية المبذولة، فإنها لم تنجح في إزالة هذه العادة من التربة الاجتماعية العراقية. فعقب واقعة "تقديم الـ50 امرأة" في 2015، أعربت لجنة العشائر العراقية في البرلمان عن غضبها تجاه هذه الخطوة.
وأصدرت بيانًا أعلنت فيه "تشكيل لجنة موسعة تضم لجنة العشائر النيابية ولجنتي حقوق الإنسان والمرأة النيابيتين، إضافة إلى جهات أخرى معنية، للتحقيق في الموضوع والحيلولة دون تنفيذ هذا الفصل العشائري".
ليس في العراق وحده
عرف الأردن، أيضًا، تلك العادة المقيتة لكن بِاسمٍ مختلف هو "غرة مدّي"، والذي يعني زواج الديّة.
اعتبر الكاتب هاني الرفوع، في كتابه "قراءة في سيرة الرعيل الأول: عُمر العناني"، أن الحالة الاقتصادية حضرت بقوة في بعض حالات الزواج التي عرفها الأردن، مثل زواج الدية والذي يُعرف بِاسم "غرة مدى"، والذي تكون فيه المرأة جزءًا من الدية التي يدفعها أهل القاتل لأهل القتيل.
يقول الباحث الاجتماعي روكس بن زائد العزيزي، في مقالته "شيءٌ عن قبيلة الحويطات"، إن الفتاة التي كانت تقضي التقاليد الأردنية بتسليمها إلى أهل أعدائها كانت تُعامل "أحطُّ من أمة، لا يحق لأهلها أن يُدافعوا عنها أو ينتصروا لها أو يطلبوا طلاقها ممن تزوجها ويسيء معاملتها إلا إذا أنجبت ذكرًا. هنا يكون لهم الحق طلب طلاقها".
هذا الوضع أصبح مضربًا للأمثال في الأردن فإذا أراد أحد التعبير عن امرأة مهانة في أي ظرف قال "أي هي غرة مدى".